
أشعرُ كما كان يشعرُ صابر حينَ بلغ الستين. وهو الذي عاشَ حياةً كئيبةً في صِغره، إذ تربَّى على يدِ والدٍ قاسٍ وأمٌ حنون
ترعرعَ بين رحمة والدته وقسوة والده، اشتد بأسهُ في العشرين. فقرَّرَ الرحيلَ بعيداً عن والدهِ القاسي.
عاش.. وبالكاد كان يستطيع توفير قوت يومه، لا يتبقى له من راتبهِ سوى بضعِ ريالاتٍ إن تبقتْ.
يُطلُ على والدتهِ سراً بين الفَيْنَةِ والأخرى. وهيَ التي كلما رأته كانت تُلِحُّ عليه أن يتزوج لترى أبناءَهُ قبل موتها.
فما كان له بعد النظر المتكرر إلى ملامحِ والدتهِ إلا الموافقةَ على طلبها، راجياً أن تمنحهُ بعضَ الوقت كي يتدبرَ أمرَهُ ويُكَوِّنَ نفسَهُ ويتأهَّبَ لما هو مُقبلٌ عليه.
وبعد معاناة طويلة، وأيامٍ مريرةٍ، يتسَلَّفُ من فلان و يُطأطِئُ لفلان، استطاع أن يبني الريال على الريال ويصمدُ مبلغًا لا بأس بهِ من المال كي يُلبّي طلبَ والدتِهِ، ويفرِحَ قَلبهَا.
وفي عشيةٍ شاتية أخذ ماكينة الحلاقة، هذب ذقنه واستحم. ثم قابل المرآة بروبهِ الأزرق القصير، وأخذ يرتب شواربه و يفتلُ أطرافها التي كان يرى فيها أيقونة رجولته.
أخذ يُجفف شعره المجعد، ويرتبه بمرطبٍ أضفى على خصلهِ لمعانًا ونظافة. أبعد بخنصره الأيمن شعرةً هوت من رأسه على أنفه الصقري، و بسبابتيه اليمنى واليسرى رتب حاجبيه الطويلة المتقاربة الكثيفة.
وألتفت بحثًا عن قطرة العين التي كان دومًا ما يستخدمها قبل زيارة والدته، كي لا ترى عينا ضناها الدعجاء حمراءَ مُرهقة، فتزدادُ قلقًا عليه.
لبس ثوبه الجديد. بخَّر صدريته البُنية، ولمعَ حذاءه البُني الذي يلبسهُ من سنين، وزم معصمه الأيسر بساعة رولكس التقليدية، ودهن خيط مسبحته الصفراء بدهن العود الكمبودي، وعطرها بعطر كريد الأبيض وأخذ يفركها بكفيّه توترًا وفرحًا.
بعدما صر الريالات واحتضن الهَللات، ذهبَ وقلبُهُ مُنْتَشٍ بالفرح، ذهب وهو يردد : “سأجعلها تسعدُ بي، سأجعلها تفرحُ بابنها، سأجعلها تختارُ زوجتي بنفسِها”.
ذهبَ وكلُّه أمل، ذهبَ وكلُّه حلم..
ولج إلى منزلِ والده متسللًا كعادته متأكدًا أنه لن يلتقي والدِه كونهُ في مثل هذا الوقت بين صحبه في ناديهم “نادي المتناقضين الأجلاء”.
إذ كانوا يقرعون الكؤوس وتتوافدُ عليهم بناتُ الليل طمعًا فيما معهم من خمرة، وما في جيوبهم من أموالٍ وفِرة.
حيثُ كانت ريالاتهم مبتلعة في خزاناتهم الفولاذية المؤصدة خوفًا من المصارف وعدم ضمانها، لا تظهر إلّا في مثل هذه مناسبات “السكر والرذيلة”.
أما عن واقع أغلبهم مع زوجاتهم، لم يكن واقعًا يسرهن. فهم متدينون حينما يردن زوجاتهن الوظيفة. متمسكين بمقولة : “أن المرأة وجدت لخدمة زوجها وأن وظيفتها الأم كنس مخلفاته وتحضير زاده.
والتبسم والفرح حينما يأتِ بعلها، وعدم الشكاية في أمور تافهة مثل : سهرة مع أهلها، أو طلب بعض المال لتبضع حاجيات المنزل أو حاجياتهم الشخصية. يتحججون لهن بأن الأيام دول، وأن المال الذي معهم الآن يجب أن يصرف في أمور أولى وأن يستثمر!!”.
ولجَ ويا ليتهُ لم يلج
إذ كانت الصدمة وتبديد الأحلام، قهر النفس وإطفاءُ روحٍ ببرودٍ وعدوان
رأى والده يسوطُ والدته ضرباً لا إنسانيةَ فيه..!! والمسكينةُ تصرخُ مستنجدة “ساعدني يا بني، أرجوك ساعدني يا بني”.
إلّا أنهُ تسمرَ مكانه. لم يستطعْ فعل شيءٍ إلّا النظر لوجهها والدمُ يسري منها. صارَ جسدَها أشبهَ بساحةِ حربٍ دموية، إلّا أن الدماء تنبجس منها وتُغرقها.
لم يتمالك نفسه من هولِ ما رأى، خر مصعوقًا من هول ما رأى.
راودهُ حلمٌ أنَّ ما رآه من والده ليس إلا مجرد حُلم. وأن حُلمه الذي هو فيه ووالدته ترقصُ في ليلةِ زفافه هو الواقع.
ففتح عينيه بعد لحظات. فوجد والده مواصلاً ما كان عليه، ووالدته تستنجد، حتى غابَ صوتُها.
كادَ أن يُجنَّ، تمزق فؤاده وهو ينظر لوالده وهو يخاطب جنته الأرضية قبل أن يخرج : يا لك من امرأةٍ لحوح.. يا لك من امرأةٍ لحوح…!!
ذهب مسرعاً إلى والدته يحتضنُها حُضن الأسيف؛ كليل اليدِ جريحُ الفؤاد. يقولُ بلوعةٍ واضطراب : لا لا يا أمل عُمري. لا تغادريني يا أمي. أفيقي أرجوكِ. كيف أعيش بعدكِ؟ لماذا أعيش!
حنَّ عليه الإله، وأعادَ الروح للجسد، ثم نظرت إليهِ بسامة واحتضنت كفوفها وجنتيه وفارقت الحياة.
وكأن ابتسامتها وحيٌ صُبَّ عليه : لا تقلق يا صابر، أنا فخورةٌ بكَ. يا ولدي لا تحزن فروحي معك. يا صابر اطمئن، والدتك في نعيمها الآن”.
قبلَ جبينها والدمع يسيل من محجريه بحرارةِ البركانِ فوق خديّه، وصرخَ صرخةً أرعبت الأموات في قبورهم
وأخذ يلعنُ أبوه، يحاسبه ويشتمه بأقبح الألفاظ وهوَّ الذي غادر المكان منذ دقائق : ماذا فعلت لك؟ ما هو ذنبها؟ هل إثمُها أنها طلبت حقها بتوسلٍ وإذعان؟
أبهذه البساطة جحدتَ ما فعلته لأجلِ رضاكَ عنها؟ هل مرَ يومٌ ولم تجد هذا المنزل نظيف رغم نجاستك؟ هل مرَ يومٌ ولم تجدها تلبي فيه جُل مطالبك؟
كانت ملاكًا رحيمًا. كانت سراجًا منيرًا أضاءَ حياتي التي أظلمتها، أسستني من بعد هدمك! زينت لي الدنيا من بعدِ بشاعتك!
يا حرقتي عليها لم تكن تعلم أن عمرها سينتهي لأنها طلبت استقبال أهلها وأصرت!!
قبحتك الدنيا وأرداك ربُ الدنيا في عذابٍ لا ينفد وجحيمٍ لا يبرد.
وسارت الأيام..
لم يستطع صابر تحمل أشجار الألم التي بث بذورها والده في جوفه.
فقرر الرحيل بعيداً، بعيداً عن أهله، بعيداً عن صحبه بعيداً عن أرضه، بعيدًا حتى عن نفسه.
كيف لا، وكل ما كان يملكه ويعيش من أجله، ولَّى وذهب. ذهب العطف والحنان، ذهب مصدر الدفءِ والأمان، ذهبت والدته أمام مرأى عينيه دون أن يفعل شيء!
طرق دروب الغربة بحثًا عن خلاصه لم يترك عملًا شاغرًا إلّا وعمل به. يعمل كثيرًا وينام قليلًا.

في يوم الأثنين الموافق : ٧ – ١٢ من السنة الميلادية. عاد إلى منزله بعد يومٍ شاقٍ وطويل. عادَ مُرهقًا حزين. ارتمى على الفراش ونام دون أن يعلم بأن اليوم يصادف عيد ميلاده الثلاثين.
وفي عالمِ الأحلام وافتهُ والدته، وكانت أولى زيارتها له بعد وفاتها. تقابلا على ضفافِ نهرٍ طيبٍ صافٍ، ونسماتُ منتصف الربيع تهفُ على وجهه بلطف.
بانت والدته فوق صخرةٍ ذهبيةٍ أمامه، أخذ يتأملها مطمئنا وهيَ تتأملهُ بوجهٍ مشرقٍ وضاح، تحتضنها عباءةً حريريةً بيضاء.
ما طال تأملُهُما حتى باشرتهُ الحديث : يا أبن بطني صابر، ها أنت كبرت، وها أنت عملت، تعلمتَ وتقدمت، فهل لي أن أطمئنَّ في قبري؟
فقال في نفسه وعيناهُ تلمعان، وقلبهُ من فرطِ سعادتهِ يرقُص ويُغني، وعقلهُ يسخرُ من الواقع المر بتباهي، من مثلي؟ أنا في رحاب أُمي!
ثم جاوبها : دُليني السبيلَ يا أملَ عُمري، يا جنتي أمل، آهٍ ما أروع أسمك، قولي يا أملي، قولي وسوف أفعل دون مناقشة.
قالت : تزوج يا صابر. تزوج وأرح والدتكَ أمل من همكَ في نعيمها. وصدقني يا حبيبي، ستكون زوجاً حنونا وأباً عطوفاً.
وقبل أن يقول أخذتهُ في حضنها وضمته ضمةً أشعلت في داخلهِ فتيل أمل.
تنهد وسكبَ همهُ على أكتافها ثم همس في أذنها وقال : اليوم زُرتِني فمتى أزوركِ؟ ردت : حينما يحينُ أجلُكَ يا وتيني، حينما يحين أجلُك.
استيقظ صابر والسعادةُ تغمره، والبسمةُ زينت وجهه، والسرورٌ يجولُ في قلبه. كيف لا يكون، وقد رأى في منامه من كانت غايتهُ رضاها وفقط.
حسمَ أمرهُ على تلبيةِ طلبها وإسعاد روحها في قبرها. ولكن كيف! من ذا الذي يقبل أن يزوجَ غريبًا؟
غريبًا لا عضيدَ له ولا سند. لا يعرف في هذا البلد سوى رب عمله وزملاءه، وهيَ معرفةٌ سطحية جدًا تكاد تُختصر على “نفذ وحاضر”.

في يومٍ غائم، خرج صابر من عمله قُبيل الغروب. استراح في مقهى صغير بطابع كلاسيكي بسيط. يبعدُ عن شقته مسافة مربعين سكنيه.
جلس يرتشف قهوته، وأخذَ يتناول ببصرهِ الحضور يبحث عن زوّجته التي لا يعلمُ كيف يجدها.
أخذَ يسأل نفسه : هل ستجلس في هذا المقعد أو ذاك؟ وهل سوف يدور بيننا حوار ُعيون؟
أم أنها ستفوتُ بجواري وتضربُ قهوتي بيدها دون أن تدري، فتُسكبُ القهوة على هندامي ثم تعتذر ، وتدعوني على طاولتها وتنطلق قصتُنا؟
يا تُرى كيف سيكون شكلها، بيضاء أم سمراء، طويلة أم قصيرة، مترجرجة اللحم أم نحيلة؟ جميلة أم متوسطة الجمال، أم أنها ستكون عادية ويهواها قلبي قبل عيني؟
كيف سيكون لون شعرها؟ أصفر كسائر الإناث هُنا، أم أسودٌ سامقٌ يحتوي عروبتي التي أكادُ أفقدها؟ ماذا نُسمي أبنائنا؟ هل سنرى أحفادنا ونلاعبهم؟
وقضى وقته منسحبًا من بادئه وهو البحث عن زوجته، غارقًا في كومِ أسئلةٍ مستقبلية مجهولة، سلبتهُ من واقعه الذي من خلاله كان قادرًا على صياغة مستقبله دون أسئلة.
أبحرَ في زورقِ أسئلته دونَ ميناءٍ للأجوبة، في عرض بحر الأسئلة الفسيح، بانَ لهُ النادل ليعيده إلى واقعه. قال له بلسان أهل البلد : عذرًا منك إذا سمحت، الساعة الآن العاشرة، وعملنا أنتهى.
نظرَ إليهِ بدهشةٍ وقال : أعتذر لم أنتبه للوقت. تفضل الحساب واترك الباقي لك. تشكره النادل وأخذ يدور على باقي الزبائن معلنًا وقت الإغلاق.
وقف صابر على قدميه، وإذ بفرقعةٍ خرجت من ركبتيه نظير جلسته الطويلة بذات الوضعية. ثنى ظهره للخلف؛ وأخذ يفرقع فقرات ظهره، يجدد دورة الدم في جسده.
وما أن عاد جسده يستقيم حتى لمحَ قطراتِ هتانٍ تُقبلُ زجاج المقهى، ألتفت بحثًا عن مظلته، وتذكر أنه لم يحضرها، فخرجت أقدامهُ تخطو تحت المطر.

يتأمل حباتِ المطرِ أسفله، تسحرهُ انعكاسات النورِ منها
وإذ بصوتِ إمرأةٍ عجوز تعاتبُ شابةً في منتصف العشرينيات على لا مبالاتها.
المرأة بدت وكأنها في منتصف الثمانين دائرية الجسد ممتلئة. وجهُها فيه مشقةُ الحياة مُجعد. عيناها غائرتان. أنفها تفلطحَ من التقدم في العُمر، في يمينها بخاخٌ لونهُ نيلي
أما عن الشابة، فكانت متوسطة الجمال والطول. بيضاءَ كالثلج. خدودها مُترعةً مخدوشةً بحمرة. أنفها مدبب، شفاهُها دقيقة. ذِقنُها ناتئ، فكيّها متوسطة. حاجبيها مقوسة، جبينها يعكسُ النورَ من صفاءه. كأنها ملاكٌ يسيرُ بنور
نحرها فتان لولا دورةُ الكواكب لثبتت تتأملهُ بإمعان. جسدُها ممشوقٌ وصدرها بارزٌ يجعلُ الكهلَ إلى شبابهِ يتوق.
زينت شعرها البُني الغامق بورود. تدُسُ أقدامها الناعمة الحمراء داخلَ قبقابٍ لم يمنع أزهارَ عقبيّها الحمراء من التجلي.
كانتا تبيعان بعض الأنتيكات القديمة. فإذ بصابر يشدهُ المنظر، وأخذَ يتأملُهم ويردد في نفسه : الماضي والمستقبل في الحاضر!
ذهب نحوهم يجرُ خيباتَ ماضيه، بشكيمة الحاضر الذي هو فيه، يطمعُ لمستقبلٍ زاهرٍ يُنسيهِ أقبحَ لياليه
وقفَ أمامهم بقلبٍ ينبضُ فوق المعتاد، ويدٍ ترعشُ دون العادة، وعرقٌ يتصببُ تواريهِ قطراتُ المطر
باشرهُم بتلبكٍ : مرحبا، كيف الحال؟ ثم استدرك أنهُ ليس في بلدٍ عربي، فعدل كلماته في ثوانٍ : سوري.. هاي.
تبسمت العجوز وقالت : أوه أنت عربي يا ولدي؟ تجهم من قولها : “ولدي”. فهو لا يَطيقُ سماعها إلّا بلسانِ والدته. رد عليها : نعم أنا عربي لكني لستُ ولدك.
استلطفته قائلة : نعم لستَ ولدي، ولكني تمنيتٌ أن يكون لي ولدٌ يُشبهك. رد على قولها بتعجبٍ : أهذه مجاملة أم ملاطفة؟ أجابتهُ : لا.. بل حقيقة.
ظنها تستخف به، فسألها : كم عدد المرات التي قلتِ فيها هذه الحقيقة لغيري هذا اليوم؟ ضحكت وقالت : ما صرحتُ بها لغيرك. هل تعلم لماذا؟ لأنك العربي الوحيد الذي وقف أمامي هذا المساء.
فتدخلت الفتاة بنغمةٍ عذبة لا يشوبها نشاز ، كي تُنهي هذا الحوار الذي بدا وكأن أخرُهُ شِجار : احم احم.. أعذر جدتي فهي مجاملةٌ عتيقة. اقترب، دعني أُريك ما لدينا، هل أنتَ مهتم بالجرامافونات؟
لدينا هنا هذا الجرامافون.. قديمٌ جدًا كما ترى، أنظر إلى تاريخ الصنع منحوت أسفلَ قاعدته، هنا هنا أنظر ،إنهُ يعود إلى العام : ١٩١٧. ها ما رأيك؟
أجابها بجرأة : أعلمُ أنكِ لم تصدقيني القول، وأنكِ أنتِ من نحت هذا التاريخ بهذا المفك الذي أمامك، لأن نقشهُ حديث، ولكن لو قُلتِ لي : أن من صنعه هو توماس أديسون بنفسه لما كذبتُ تِلك العيون التي قالت.
كساها الخجل، وحاولت الجدة إعادة الأمور إلى نصابها، وتحرير حفيدتها من لسان صابر المعسول، إلا أنها لم تستطع، حيث وقف أمامها مشترٍ وأخذ يسألُها عن التحف
فحاولت الفتاة تدارك الموقف وقالت لصابر : يبدوا أن الأمور لا تنطلي عليك بسهولة. أنت ذكي، ما هو أسمك؟ أجابها بفخرٍ وثقة نظير إشادتها : اسمي صابر وأنتِ ما هو اسمك؟. ردت وهيَّ تمدُ يمينها لتصافحُه : أهلًا صابر، أنا نور
صافح يمينها القطنية وهو ينظرُ إلى عينيها العدنية التي نشأ فيها بريقُ لم ينضج، وبلسانٍ حلوٍ قال لها: اسمك جميلٌ يا نور، أسمكِ مبعثٌ للسعادةِ والسرور. وسوف أخذُ هذا الجرامافون، كم ثمنه؟
أجابتهُ دون وعي : لغيركَ بثلاثين ولكَ بعشرة. قطعت الجدة تسويقها للمشتري الذي أمامها. التفتت على نور غاضبة بدلالةِ العروق التي كادت تتفجرُ من جبينها وصاحت بها :لعنكِ الله لعنكِ الله، مجنونةٌ أنتِ؟!! تبيعينه بأقل من سعره الذي اشتريناهُ به؟
وضعت الجدة يديها فوق رأسها، وأخذت تولول وتدور حول نفسها وهيَّ تقول : ماذا فعلتَ للفتاة يا من ليس ولدي؟ ماذا فعلت بهذه المسكينة حتى سلبت عقلها؟ هل نومتها مغناطيسيًا!؟
لُطفكَ يا رب السماوات لطفك، حفيدتي فقدت عقلها فقدته فقدته آتوني بشيخٍ وقور يقرؤ عليها قبل أن تذهبَ فِطنتَها
وأخذت تهفُ بكفها على وجهها وتقول : ما بال الطقس تغيير! حرررر.. حررر.. ثم وضعت يدها على صدرها وقالت : ما بالُ دقات قلبي بدأت تنخفض، ما بالُها ما بالُها!! أين ذهب الأوكسيجين هل ماتت الأشجار؟ ستقتلني هذه النور ستقتلني
علت ضحكات نور، ولحقتها ضحكات صابر على ردة فعل الجدة، فقال صابر وهو يحاول السيطرة على نفسه من نوبة الضحك الهستيرية التي انتابته : على مهلك على مهلك، سوف أشتريه بأربعين سوف أشتريه بخمسين سوف أشتريه بثمانين.
سكنت الجدة وعادت لرشدها بعد أن نظمت أنفاسها وقالت : نعم نعم هكذا يكون البيع، تعلمي لا بارك الله فيك كٌدتِ توقفين قلبي!!
ثم عادت تساوم المشتري الذي لم يكن يعلم ما يدور، إلّآ أن عدوى الضحك انتقلت له مع حركات الجدة. وقالت لهُ بلسان أهل البلد : هذه بخمسين إن أردتها خذها، أو أبحث عن مثلها في الجوار ولن تجد.
ردت عليها نور بضحكة متعجبة : يا جدة لكننا نبيعها بعشرين!. سفهتها الجدة. وقالت للمشتري وهي تُحرك التحفة بيدِها : هاه هل تُريدُها، أم إبحث عن غيرها في الجوار. وما كان منه إلا أن أخذها وهو يضحك.
عادت نور تتحدث مع صابر وهي تستر شفاهها بأناملها و وتوشوشُ بلُطف : هل تُريد أن أدعها تُجن من جديد؟. قال صابر وهو يضحك : لا رحمكِ الله، لا، يكفينا ما فعلت. ردت نور : لا عليك لا عليك انظر فقط.
قالت نور لجدتها التي تعدُ النقود بنظراتِ مُحب : يا جدة كنت أقول : ماذا لو أعطينا صابر أسطوانة وردة الجزائرية تلك الأسطوانة التي فيها أغنية “أهلًا يا حُب”
حشت الجدة نقودها في صدرها وألتفت وقالت : لا لا هذه مسخرة.. هل تعلمين بأني لو بلغت عليكِ الشرطة اتهموكِ بمحاولة قتلي! لا يوجد لدينا شيء مجاني يا نور ،يا نور.. آه آه قلبي قلبي.
وأخذت تُمثل أنها فقدت توازنها وتبحث عن كرسيها وتقول : من الواضحِ أني سوف أُشل، ألحقوني بالكرسي لا أُريد أن أُشل وأنا واقفة
ضحكوا مرةً أخرى وأشارت نور لصابر بأناملها أي : إقترب. فاقترب، وهمست في أذنه : تعالَ غدًا وسوف ألتقيك بعيدًا عنها كي أُعيركَ الأسطوانة. ولا تنسى أن تعيدها بعد أن تسمعها، كي لا تموت المسكينة.
وافقها ثم أخذ حاجته من يديها، وعيناهُ لم تفارق بديعها. ومضى في سبيله.
أحس معها بشعورٍ خلاب، وأحس منها ذاتَ الأمر فأصبح يتردد عليهم يومًا تلوَ يوم، حتى استوى حبهما، فقرر أن يُشرع هذا الحب الذي طهرَ فؤاده ويتزوجها.
فاستجمع قواه وعزم أمره. ذهب لخطبتها من جدتها، فما كان مِن الجدة ِ إلا أن فرحت بما أتى به وشاورتْ نور، فبَدَا صمتُها، وصمتُهَا قبُولُها. فاشترطت الجدة عليه أن تستمر نور في عملها معها، وكان شرطًا مقدور عليه
ذهب صابر ليجهز ما يلزم من مستلزمات الزواج، وذهبتْ نور لتهيئ نفسها، وتستعد ليوم بنائها.
وأتى اليوم المنشود وتزوج صابر ذو الثلاثون عاما، من نور الفؤاد والدرب.
وبعد فترة وجيزة من زواجهم، شاء الله أن يتوفى الجدة بسكتةٍ قلبية.
حزنا عليها حزنًا بشعًا، فكان عزائهم الحب الذي بينهم. فأحبوا بعضهم حبًا عظيما، ترابطت فيه القلوب، وتعانقت من خلاله الأرواح.
ثم مضت الأيام والسنون.. وأصبح صابر في الأربعون
لم يرزقه الله بابن يملأ عليه دنيته، حاول مراراً وتكراراً إيجاد حلولٍ، ولكن لا جدوى، خاب صابر ويئستْ نور. فقرت نور أن تبحث عن زوجة لصابر، لعل الله أن يرزقهُ منها بطفل.
فما كان منه إلا الرفض والاعتراض. فهوَ لا يريد أن يجعل لنورهِ همًا غير همها، فقرر العيش معها حتى إن لم يرزقه الله بطفل منها.
ثم مضت الأيام والسنون وأصبح صابر في الثالثة والخمسون
ثلاثةٌ وخمسون عاماً قضى جُلها حزين بلا أم ولا أبٍ يحمل صفات الأبوة، لا أخٌ ولا صديق. بعيدًا عن وطنه شريدًا في غربته، لا حيلة له ولا أمر.
ليس له إلا سكنًا واحدًا فقط. نورهُ نور التي رأى منها الدنيا ورأت فيه الحياة، وكانَ مناه أن يُظهرَ منها للأرضِ كنزًا نفيسًا من كنوز الحب.
وبقدرةِ القادرِ ربُ المعجزات، شاءَ الله أن تحمل نور من صابر، على الُرغم من أنوفِ أعمارهم المتقدمة . فرحا فرحةً عظيمة، لم تسعها الدنيا، أتاهُم الفرجَ بعد الشدة في أواخرِ أعمارهم. يا الله ما أجملها من لحظة!!

أخذا يعدا الثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور بلهفةٍ واشتياق..
وبعد طول انتظار أتت ساعة الولادة
فأخذ نور إلى المشفى كي تنجب طفلهم المنتظر. دخلت غرفة العمليات وأخذَ هو يُفكر فرحًا
إن كانت أنثى ماذا أسميها؟ سارة، لا لا متكرر، نورة؟ لا لا قديم. إن كان ذكر أي الأسماء تليق به؟ خالد، لا لا محمد نعم محمد
وفي ذات الآن كان قلقًا على نور، إلّا أن فرحته غلبت قلقه.
وبعد سويعاتٍ خرج الطبيب بوجهٍ بلا مشاعر ليقول له : حاولنا جاهدين، عملنا كل ما في وسعنا، ولكن للأعمارِ أيام.
غلب الانكسار فرحه وقال والدمعُ يُولدُ في محجريه : ماذا!! أذهب طفلي؟! وقبض على الطبيب من تلابيبه وهو يردد : أجبني هل ذهب طفلي! أذهب طفلي أجب؟
أجابه الطبيب بعد أن ربت بيمينهِ على كتفهِ الأيسر : تريث واصبر؛ الطفل بخير، ولكن والدته هيَّ من ذهبت. شد حيلك.
لم يتقبل، وكانت ردة فعله صيحة تبعتها عَبَرَات، وبصوتٍ عالي يردد : لماذا يذهبُ من أحب؟ لماذا يذهبُ من أحب؟ أجيبوني لماذا؟ ثم أخذ يتخبط حتى سقط مغشيًا عليه.
ما أن استيقظ حتى وجد الطبيب أمامه، وبينهم ابنتهُ في سريرها الصغير، سأله الطبيب : أي الأسماء يناسبها؟ فأجابهُ بدموعٍ حارة لو أمطرت على أرضٍ مزهرة أقفرت : أسمٌ مزدوج “نورُ الأمل”.
نظرَ لطفلته بعطف الأب الغائب وحنانِ الأم المفقود. فأقسم أن يُسخرَ حياتهُ من أجلها ومن أجل من أنجبتها وأنجبته..
ثم مضت الأيام والسنين، وأصبح صابر في مطلع الستين

عاش أيامه في رعاية ابنته، لم يبخل عليها بشيء، ولو عاد الأمر إليه لأتى بالشمس والقمر بين يديها الجميلة، كي لا ترى ما رآهُ هو في حياته الكئيبة.
كبَّرها وعلَّمها.. درَّسها وفهَّمها
وفي ليلة مطيرةٍ ظلماء، قُرعَ جرس المنزل بتتالي، والباب يُضربُ بقسوة..
فتح صابر الباب بخوف، وإذ هيَ إحدى الجمعيات الإنسانية تطلب منه تسليم الطفلة إليهم نظير عدم قدرته على رعايتها.
وأبلغوه بقدوم مندوب من دار الرعاية الصحية لكبار السن، كي ينقله للدار للإقامة ومتابعة حالته. حيثُ نبأ إلى علمهم من خلال عدة بلاغاتٍ تقدم بها جيرانه أنه غير سوي لما يُصدرهُ من صيحاتِ ألمٍ في أخر الليل أقضت مضاجعهم.
إذكان يخرج في منتصف غالب الليالي القريبة الماضية ويحطم في الطريق ما استطاع تحطيمه دون أن يشعر، ثم يعود لينام ويصحى ويحادثهم بلطفٍ ولين، ويستنكر الخراب الواقع في الحي وكأنهُ لم يُحدثُ أمرا.
فكذّب ما أتوا به، وأتهمهم بالجنون والتقصد. وحاول جاهدًا، ألا يسلمهم طفلته، بكى حتى اشتكى البكاء من البكاء.
يقول لهم بلوعةٍ وحرقة : هذه نوري وأملي وليسَ لأحدٍ الحق أن يسلبها مني، هذه ما تبقت لي، لن أدعكم تقتربون منها.. ابتعدوا
أخذوها منه بالقوة وقيدوه على الكرسي لحين وصول مندوب الدار.
وألتفت عليهِ أحدهم وقال : نعم صحيح حتى لا ننسَ سنخصصُ لكَ من يوم الجمعة ساعتين لترى فيها أبنتك.
فغاب وعيه وسرى صوت والدته في أذنه : مهما اشتد بكَ البلاءُ فاصبر، ففي الأخرةِ المنزلةُ أكبر.